تاريخ النشر : السبت 11:46 2024-6-22
الناقد المسرحي جمال عياد
تعد تجليات الطقس المسرحي، من أولى الأنماط الدينية والثقافية والأشكال الفرجوية، التي ظهرت وواكبت الحراكات الحياتية في المجتمعات الإنسانية الأولى، التي كانت تندفع فطرياً في سعيها نحو غريزة البقاء، سواء بتجاوز النوازل بمختلف أهوالها الماحقة، التي تصادفها في حياتها، سواء من تجليات الطبيعة القاسية، أو الحروب غير المتكافئة، هذا من جهة، ومن جهة ثانية تظهر هذه الطقوس باحتفالياتها احتفاءا باستقبال الخيرات اقتصادياً؛ باستحواذ هذه المجتمعات على المياه، والمراعي الخصبة، وحصصها من الصيد، لغذائها هي نفسها أولاً، أو لمواشيها ثانياً.
وبالتالي كانت هذه الأنماط والأشكال الطقسية لا تأتي كشيء كمالي في الحياة للهو مثلاً أو للتسلية، وإنما تجيء كضرورة حياتية وجودية، بمثابة الهواء التي لا تستغني عنه النفس البشرية.
ومن ذلك ما يمارسه الشعب الفلسطيني، من أنماط كفاحية، من أجل بقائه حيا، مثل باقي شعوب العالم، إزاء النوازل التي ما انفكت، ولا زالت تنزل عليه، من أعدائه في فلسطين عموماَ وغزة خصوصاً.
فلا تزال المعالجات الدرامية، متواصلة في رصد مأساة الشعب الفلسطيني في التاريخ، والتي كان آخرها مسرحية،”يا طالعين على الجبل” المأخوذة أحداثها، عن رواية من تأليف كفى الزعبي، بعنوان “عد إلى البيت يا خليل”، وإخراج عبد السلام قبيلات، التي قُدمت مُؤخراً على مسرح الشمس.
ورغم أن المسرحية، نصها الدرامي يتناول ابتداءً أحداث عام وما بعدها، إلا أن الرؤية الإخراجية ربطت هذه المجازر، بإضافة من عندها، من خارج مجريات النص الدرامي، إلى ما يجري الآن في غزة، وإن ما جرى، ويجري في غزة، ما هو إلا امتداد ومواصلة لما جرى في النكبة الفلسطينية الأولى، وجاء هذا الربط بصرياً، في هذه المسرحية، بإبراز منظور لصورة ضخمة فوتوغرافية، تجسد أمكنة واقعية مدمرة من قطاع غزة، أظهرتها آلة بصرية ظلت تظهر عبر كافة المشاهد واللوحات حتى انتهاء عرض هذه المسرحية.
إذْ أن مدلولات هذا المنظور تواصل المشاهد معها، بأن فضاءات غزة لم تعد مكاناً صالحاً للعيش البشري؛ فأظهرت مكوناته التدمير اقتصادياً للأسواق، والشوارع، واجتماعياً للبيوت السكنية، بزوال المجتمع المدني، وثقافياً لدور العبادة؛ مساجدًا وكنائس، فضلاً عن تدمير المكتبات، وأكشاك الكتب، الساحات العامة، وغير ذلك من مظاهر حياة المجتمع المدني.
البناء السطحي للعرض تأسس على تقنية إعادة الأحداث للوراء
وكانت الرؤية الإخراجية، تجريبية، بمعنى أنها لم تبدأ بتسلسل تاريخي للأحداث حول معاناة الشعب الفلسطيني، منذ بداية اغتصاب حقوقة المدنية والتاريخبة، وصولاً إلى الراهن، وإنما عادت من هذا الراهن المعاش، لمأساته التراجيدية الكبرى لما يدور الآن في قطاع غزة، إلى الوراء، وأحداث من فقرات مأساة هذا الشعب أيضاً في العام 1948.
إلا أن المخرج، وظف البناء الصوتي أساساً، المتأسس على المؤثرات السمعية، وأنساق الجمل الغنائية، ذات المناخ الطقسي، في تقديم جُل محمولات المسرحية، إضافة لذلك فقد تخفف العرض من طغيان قوة الشخصية، والحبكة، مقابل حضور المناخ العام للأعمال الجهادية، سواء في تبيان سقوط المجاميع من المواطنين الفلسطينيين المدنيين، ضحايا المجاز التي مرت عليها أحداث المسرحية.
وقد أدى ونفذ تفاصيل البناء العنائي والموسيقي كل من الموسيقيين والمغنيين: اللبنانية مي نصر، ومعتصم عازر، وبشار سميرات، أحمد القيسي. وعاضد هذا الفضاء، أداءً بصرياً للوحات راقصة، وأداءات حركية، إيقاعية جسدية، لم تخلو من الصورة المسرحية، النابضة بالزخم التعبيري، للغة الجسد، التي جسدتها حياة جابر، وهيا قمحية، غناءً وتمثيلاً، طارحتان معاناة المرأة، الاجتماعي والنضالي، الذي لم يخلو من عذاب ومعاناة، وقد طرحت محمولات المسرحية أساساً وفق البناء السمعي؛ من خلال الموسيقى الحية على آلة القيثار، والعود، والدف، والأرغول، والأغنية، التي جاءت جُل كلماتها وألحانها مُفادةً من الموروث الشعبي الفلسطيني الشفاهي، الذي انتجته فضاءات النضال لدى مختلف شرائح الشعب الفلسطيني، في دفاعه عن نفسه.
تغدو (ترويدة) المرأة الفلسطينة طقسا مسرحياً جهادياً
والفضاء الطقسي، كما هو في هذه المسرحية، لا يقدم كلمات أغانيها، واضحة لا بل تطرح مقنعة، وتظهر قوتها التعبيرية عند أدائها في السياق، كما في (الترويدة)؛ وهو غناء مُشفر، اجترحته المرأة الفلسطينية في مناسبات خاصة، وعامة، وكأنه لا يمكن استيعاب كلماته، ويتفرع منه خط غنائي مُمتد منه، يُطلق علية (المولالاة).
فعند الإصغاء، تجد هذه الخصوصية، سواء على مستوى الصفات الغنائية، التي تحضر في أنغامها الإيقاع البطيء، والكلمات والتنغيم، والتي تشكل في مدلولاتها جانباَ متميزا في مجمل الفضاء الغنائي الفلسطيني، التي تطرح في المناسبات الاجتماعية، والعاطفية.
وكانت النساء يؤدين، أو يرددن هذه الترويدات، في أماكن لقائهن في الأماكن العامة، وبخاصة عند ذهابهن لعيون الماء سواء لملأ قرابهن وجرارهن، أو لغسيل الثياب، أو في المظاهر الاحتفالية كالأعراس.
وانتقل هذا النوع من الغناء من تلك المناسبات السابقة إلى حياة الشعب الفلسطيني، حيث جاءت هذه الترويدات محمولات عميقة لا يستطيع العدو فك شيقرتها، ومن ابرز هذه الترويدات (شمالي يا هوا الديرة شمالي)، والتي تم أداؤها في هذه المسرحية، كانت تستخدمها زوجات وأمهات الأسرى، والتي كان للفنانة سناء موسى دوراً في إظهارها، من خلال انشغالها بهذا اللون من التراث السماعي الشفاهي، عبر أغنية (يا طالعين على الجبل)، والتي أيضاً غنتها سابقا الراحلة ريم البنا غنتها بذات الإسم، والتي أخذ اسم هذه المسرحية موضوع تناولنا من عنوانها.حيث يتم قلب الحرف الأخير للكلمة، وإضافة حرف اللام في نهايتها، كما في: سلللملي على اللي للمحبوب ميلللهم يا رويللووو (وسلم لي على المحبوب وميل عليهم). مقتبس من تحليل ل مروة صلاح متولي عن الترويدة.
ومن ذلك ما استنطقته أغنية (يويا)، من الموروث الغنائي الشعبي الفلسطيني التي أشارت بقوة تعبيرية جذابة شدت المتلقي، وتحول الفلسطينيين إلى لاجئين، في مناطق شتى، بعد أن طردوا قسراً بيوتهم..
(يا ولاد حارتنا، يويا.. نصبوا طيارتنا، يويا/ تروي الأحزان، يويا.. /يوم سبت سبات، يويا.. إجو الخواجات، يويا/ أخدوا حارتنا، يويا.. كسروا لعبتنا، يويا.. / دواليب الدم، يويا../ رفضنا نهاجر، يويا.. قال الأوامر، يويا/ صرنا لاجئين، يويا.. بكَرت التموين، يويا/ والأمر الواقع، يويا.. قمع ومواجع، يويا
ممنوع تشكي، يويا../ طب نسكت ليش، يويا.. لقمة العيش، يويا/ يلعن أبوها، يويا.. عَ اللي جابوها، يويا/ ليش السكوت، يويا.. ما كله موت، يويا/. و(جما يا جمال..يا إبن عمي وديلو هالسلام..لأبي وأمي).
وأغنية (وحدهن بيبقوا مثل زهر البيلسان)، من تأليف طلال حيدر، غناء فيروز، وكان كتابتها احتفاء بالشهداء الفلسطيني، ويحسب لهذا العرض، الذي قدمت جُل محمولاته وفق البناء السمعي، وقريباً من شكل المسرح الغنائي، أعادتهُ الاعتبار للأغنية كطاقة تعبيرية طقسية، من حيث طرحها للمناخ العام لجهاد المجتمع الفلسطيني، ودونما إغفال البطولات الفردية كما الجماعية على السواء.
الرابط: https://alrai.com/article/10840719/ثقافة-وفنون/مسرحية-يا-طالعين-على-الجبل-الأغنية-الطقسية-تعبر-عن-جلال-مأساة-الفلسطيني-في-التاريخ