قراءة نقدية
– الكاتب والناشط نور شبيطة

بعد طول انتظار، استطعت أخيرا أن أشاهد مسرحية ” بحر ورمال” المبنية على نص للكاتب الصديق ياسر قبيلات، من إخراج عبد السلام قبيلات، وتمثيل فريق مسرح الشمس في عمّان.
استغل الكاتب والمخرج رمال الشاطئ لإخفاء مضمون المسرحية رغم العنوان الكاشف، إذ بدأ الحوار بشكوى أحد البحارين للربّان حول دلو يلقيه في “الماء” فلا يخرج إلّا الرمل، ولعبت الإعادات دورا في جعل الجمهور يتأمّل الحوار طويلا، لكنّها لم تكن مجرّد إعادات، بل إنزال طبقة درامية فوق طبقة، في سبيل أن تكتمل الصورة.
.
المشاهد في هذه المسرحية لا يراقب سردا ينتظر أن يحلّ مشكلة، بل يعايش المشكلة، ويراها من عيون الشخصيات، ويتورّط في دور المشاهد الذي يعرف كل شيء لكنه عاجز عن مساعدة شخوص القصة، وهو الدور الذي يجد المثقف في بلادنا العربية نفسه أمامه.
.
وضعية المراقب العاجز التي فرضها الأخوان قبيلات (الكاتب والمخرج) على المشاهد أعطته مساحة الكشف التي تجعله يمعن النظر فيما لا يراه في حياته الواقعية بسبب التشويش والربكة.
.
طبقة بعد طبقة، يقدّم المخرج الحوار ثم يزيد عليه حركة تغيّر من سياقه فتعطيه معنى جديدا، ثم يأتي بطبقة جديدة، والتبرير الذي تقدّمه المسرحية للمشاهد لهذا التكرار هو أنه يرى إحدى شخصيات المسرحية تقدّم على الخشبة في زمنين معا: امرأة مسنّة تتذكر، وصبية صغيرة تحلم. وجدت نفسي هنا أمام تساؤل: هل ثمة فرق حقيقي بين عملية التذكر والحلم في سياقنا العربيّ؟
.
الإسقاطات السياسية البسيطة التي يقدّمها شخوص مثل الربّان والريّس الذي يحلم أن يكون ربّانا، والعاشقان اللذان يريدان الحياة، لم تمنع المسرحية من حمل إسقاطات أبعد تحتاج تبصّرا للإمساك بها، كالمجهول الذي يمشي على “الماء”، لكن لا يراه إلا عاشق حالم.
.
تفشي موسيقا المسرحية للمشاهد أن مسألة الطبقات لم تأت عفو الخاطر، ولا هي بقيت نية سرية لدى المخرج، لكنها رؤية صريحة وصلت لمؤلف الموسيقا الذي أعمل بصورة أقل وضوحا تقنية الطبقات والإعادة.
.
رغم بلوغ المسرحية نهاية ما، إلا أنّ المخرج نجح في أن يوصل المشاهد إلى قناعة أن خط الأحداث كله سيعاد مرة بعد مرّة رغم إسدال الستارة، فكما بنيت المسرحية بطريقة الطبقات التي لا تختلف إلّا في تفاصيل، يدرك المشاهد أن أحداث المسرحية كلها طبقة جديدة ستكرر.
.
الذي يمنع عدّ المسرحية ذاتها “عدميّة” أكثر من كونها “عبثية” هو أنها تشير إلى عدميّة مستقاة من الواقع العربي. مع ذلك، يفرض غياب أي إسقاطات للاعب الخارجي على المشاهد أن يحمل رؤية عدمية عن واقعه العربيّ في نهايتها.
.
ثمة الكثير للحديث عنه في المسرحية، لكنني آثرت أن أركّز على مسألة الطبقات، لأنني أراها تقنية “جديدة” تملك إمكانيات غير متناهية، ولأنها تقدّم على خشبة المسرح ما يصعب تقديمه في وسيط آخر، فهذا النص يصعب تخيّله شيئا آخر غير مسرحية، وهي الحال المثلى للقطعة الفنية، إذ لا يكون مستحسنا في حقّ قصيدة مثلا أن تستطيع أن تتخيلها قصة، فبمجرد أن يتخيّل المتلقّي أن قطعة فنية ما يمكن تقديمها بصورة وافية في وسيط آخر، فهذا يعني أن صانع العمل لم يتقن استخدام ممكنات الوسيط الذي اختاره لتقديم عمله.
.
ربما بسبب النقطة السابقة طال العمل على النص المكتوب لتحويله إلى مسرحية، فهو استنفد ممكناته بما هو نص، وكان على المخرج أن يكثّف جهده في سبيل تحويله إلى مسرحية تستنفد ممكنات المسرح في تقديمه على الخشبة.