كنت قد حسمت أمري مسبقًا أنّني سأكتب عن مسرحيّة “يا طالعين الجبل” من باب أنّها جهد وطنيّ مبارك، ومن باب أنّني أثق بالمخرج د.عبدالسلام قبيلات، وبالفنّانتين حياة جابر وهند حامد، وأتشرّف بالصداقة التي تجمعهم وتجمعني بهم، لكنّني أكتب الآن بروح أخرى، فقد كان العرض على أجود ما يكونه عرض. وها أنا أعتذر بشدّة لنفسي على أنّني لم أنكبّ على كتب كفى الزعبي، فهي كاتبة فذّة بحقّ.
.
المسرحيّة مزيج من عرض موسيقيّ وقراءة أدبيّة، ومسرحيّة جدًّا، إذ توظّف أعرافًا دراميّة خاصّة بالمسرح لم أصادفها في مسرحنا من قبل، تسمح هذه الأعراف لمن تؤدّي دور شخصيّة ما أن تلعب دور الراوي للشخصيّة ذاتها، وتكون صوت الموسيقا في خلفيّة المشهد، ثمّ تتقدّم الموسيقا لتحتلّ واجهة المسرح، في تعاقب بطيء يتسارع شيئا فشيئا، محاكيًا الحسرات إذ تلتفّ على بعضها حول نار الحزن، حتّى تتحدّ بالنار فتصير غضبًا حارقًا، فيتداخل الأداء مع الغناء، نحو ذروة منتظرة نعرف أنّها تعيش في عالمنا خارج المسرح.
.
كيف لعبد السلام أن يقول كلّ هذا بطاقم مسرحيّ من أربعة فنّانين! ويا لهم من فنّانين، فإذا كنت أعرف أداء حياة جابر، وأعشق صوت هند حامد ومهارتها في الغناء والأداء الصوتيّ، فقد فوجئت بموهبة يان عزفا وغناءً، وإيقاع معتصم عازر، وطاقم المسرحيّة البعيد عن الأضواء خلف الكواليس.
.
حبكة المسرحيّة واحدة من أقدم حبكات الدراما الأسطوريّة في المنطقة العربيّة. تذكّر الحبكة ببحث إيزيس عن جثّة أوزوريس لتقدّم له دفنًا لائقًا، وفيما بعد يتحوّل رمز الخصوبة أوزوريس إلى إله العالم السفليّ الموكّل بمباركة القلوب التي تصله أخفّ من الريشة لتدخل عالم الخلود، والذي سيبقى ابنه حورس يحارب عن حقّه بالملك الذي اغتصبه ستّ فدمّر وما أثمر.
.
أسطورة إيزيس التي انتقلت بعدّة صور إلى الحضارات النهريّة في المنطقة، وأنجبت الأديان الوثنيّة ثمّ تبدّت كثير من ملامحها في القصص الدينيّ المسيحيّ والإسلاميّ، من رحلة آلام المسيح إلى رحلة رأس الحسين على أسنة الرماح، تأتينا في هذه المسرحيّة على صورة ثريّا الباحثة عن جثمان زوجها الشهيد يوسف لتدفنه.
.
نحن ببساطة أمّة لا تقنع بأن تسقي الأرض دمها، بل وتسعى سعيًا حثيثًا لتطعم فم الأرض أجسامها، لتطعم ذلك الفم المفتوح الجائع الذي لا يشبع والعطشان الذي لا يرتوي. وكما يقول الشاعر عبدالله سمير “أريد بقربك خمس دقائق، وخمس دقائق صارت قضيّة!” فنحن نريد أن تحتضننا أرضنا، ونعجن هذا الحبّ في أساطيرنا وأدياننا، وحياتنا اليوميّة، وموتنا اليوميّ أيضًا.
.
لمسرحيّة “يا طالعين الجبل” قيمة علاجيّة، فمن شهد هذه المجازر تحدث لإخوته، ورأى عداء العالم وحقده على الإنسان العربيّ الذي لا يرتضي موقف الذلّ ولا ينبطح للغرب، واحتقارهم لمن انبطح فما أنجده بكاؤه ومناشداته في المفاوضات وعلى الشاشات، من شهد كلّ هذا اللا-منطق واللا-معقول الذي يحدث لنا، فإنّه بحاجة أن يبكي ليتنفّس. ومن لم يبكه هذا العرض، في هذا الوقت، فلا أعرف له إلى الدمع سبيلا.
.
المسرحيّة بعيدة عن التفجّع، فالبكاء في أغلبه نصيب المُشاهد، وهذا من قوّة العرض الذي يبتعد عن الابتذال، فلا يجنح لاستدرار العواطف، حتّى لو بعربة صوتيّة زائدة ولو خفيّة. تحكي شيئا من قصّتنا في الماضي وفي الحاضر، وتدفع باتّجاه مستقبل يبشّر بأنّ الشهيد سيرى الحرب التي احترق جسده حطبًا من أجل أن تبدأ.
.
توثّق المسرحيّة لغنائنا التراثيّ، وتحتفي بكلّ أغنية فتعرضها في موقف يذكّر بالموقف الأصيل في قصّة تلك الأغنية، وهكذا فهي تقوم بمهمّة توعية، فلا يمكن بعد ذلك أن تسمع أغنية أثيرة من التراث، حتّى تسأل نفسك: وما قصّة هذه الأغنية يا ترى؟ ومن الرائع كيف استطاع فريق المسرحيّة أن يمزج الفصيحة بالعامّيّة، ليقول: ها نحن! نحن أمّة عربيّة ممتدّة في الزمان.
.
عالجت المسرحيّة متلازمة المدقّق عندي، فلم ألتفت لأخطاء نحويّة بسيطة جدًّا في الأداء المقدّم باللغة العربيّة الفصيحة، لغة المسرحيّة تغمسك غمسا في عالم الأدب، بالقدر اللازم لتبقى في واقع السرديّة التي تقدّمها، فلا تذوب في اللغة، ولا تخرج إلى عالمك. وكنت أشعر أنّه ما من شيء يوقظ حياة جابر إلى أنّها على المسرح ولا تعيش المأساة فعلا، إلّا التصفيق العنيف من الجمهور.
.
شكرا كفى وعبدالسلام وهند وحياة ومعتصم ويان، وسائر فريق مسرح الشمس! شكرا مسرح الشمس.
….
هوامش:
* عبدالله سمير: شاعر فذّ كان زميل دراسة ثمّ اختفى فلم أره في عالم الأدب.
* في أغنية “على طريق عيتيت” تقع المسرحيّة في الخطأ الشائع “عيتات”، وهي ضيعة أخرى لا تمتّ لقصّة الأغنية بصلة، فالضيعة المقصودة في الأغنيّة هي “عيتيت”.

الرابط: https://www.facebook.com/nourreddin1/posts/pfbid025ChZehKgSbJHmxL1Tavf7LP3nZDLykysbgRvZzGCnh1uVGa36BPPRTTra6dJd2kvl