محمد المعايطة
تسير في الشارع المقابل للمسرح، تقف للحظات ثم تقطع الشارع إلى هناك، حيث المجهول الذي لا بدَّ أن يكون جميلاً، تدخل من الباب الذي يتزاحم أمامه من يأكلون السجائر والأحاديث بنهم من يعيش الوحدة، تُزاحمهم، تندفع إلى القاعة المُظلمة، تشتري تذكرتين واحدة لك، وأخرى لغريب خرج هائماً باحثاً عن أسئلة، ربما تصبحان رفيقان في العتمة.
تختار المقعد المناسب، الصف الخامس في المنتصف تماماً، هنا يكمن سرُّ المتعة الكاملة، يبدأ الناس في الدخول، تتأمل وجوههم وأحاديثهم كأنك تعرفهم واحداً واحدة. تبدأ الأنوار بالخفوت رويداً رويداً، حتى تبتلع العتمة القاعة بمن فيها، يخرج صوت الموسيقى من مكان ما، أنت متأكد أنه من السماء، يتصاعد الصوت حتى يُفتح أول أوامر الإضاءة، نور أزرق خفيف يأتي من سماء المسرح يغطي خطاً على الخشبة، تدرك أنك الآن فجراً، إضاءة صفراء خفيفة من جانبي المسرح، تبتسم أنك في شارع عام، ترى كرسياً وحيداً في عمق الخشبة، تحديداً في المربع الخامس وسطها، تعرف أنك في حديقة عامة، يدخل شاب ثلاثيني بملامح متباينة بين الفرح والحزن والتوتر، ترى قلبه بين يديه، يرفعه ويعطيه للأفق أمامه… أجل أنت الأفق هنا، وتبدأ الحكاية.
تضحك، تبكي، تبتسم، تشعر بوخز في قلبك، تضرب ركبتك بقبضة يديك غضباً، تعود لتضحك ثانية ثم تبكي، وتبكي، وتبكي، لقد أُغلقت الستارة، والإضاءة التي ملأت القاعة لتكشف عن رفاق تلك الرحلة، تخبرك أن الحلم انتهى الآن، تنهض وتصفق عند ظهور الممثلين، تخرج، تملأ قلبك الوحدة، تود لو تخرج معهم، تأخذهم إلى المنزل، أو تعيش حيواتهم الكثيرة فوق الخشبة. تجلس منفرداً مع سيجارة وكأس شاي، تسأل لماذا على هذا الحُلم أن ينتهي..؟
أنت تدرك أنه ليس وداعاً أخيراً، وأنك ستعيش هذا الحلم مرات ومرات، تبتسم، فهذا الأمر الوحيد الذي يُسلّي القلب ويخفف حدة فكرة الخروج من هذا المعبد. تخرج، تسير في الشارع شارداً، غير آبه بسيارات الأجرة التي تحاول خطفك إلى المنزل، في رأسك تعيد حوارات ومشاهد وانفعالات الممثلين التي شاهدتها قبل قليل، تحاول أن تأخذ معك ما استطعت من العرض، تصل المنزل، تفتح الباب وتدخل، ترمي المفاتيح على الطاولة، تماماً كما رمتها الشخصية هناك. تجلس على الكنبة وتُحدق أمامك طويلاً… أجل، صحيح ما تراه، هناك جمهور ينظرون إليك، الكراسي كلها ممتلئة ومترقبة، والجميع ينتظر منك أن تبدأ حوارك القادم. أنت الآن في مسرح حياتك.